الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الفخر: اعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الله وطاعة الرسول بقوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النساء: 59] ثم زيف طريقة الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول، ثم أعاد الأمر بطاعة الرسول مرة أخرى فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} [النساء: 64] ثم رغب في تلك الطاعة بقوله: {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 66- 68] أكد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول في هذه الآية مرة أخرى فقال: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين} إلى آخر الآية. اهـ..سبب نزول الآية: قال الفخر:ذكروا في سبب النزول وجوها:الأول: روى جمع من المفسرين أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله، فقال يا رسول الله ما بي وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك، لأني إن أدخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجة العبيد فلا أراك، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية.الثاني: قال السدي: إن ناسا من الأنصار قالوا: يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها، ونحن نشتاق إليك، فكيف نصنع؟ فنزلت الآية.الثالث: قال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك، فما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك، ثم ذكرت درجتك في الجنة، فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة؟ فأنزل الله هذه الآية، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أتى الأنصار ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده إلى أن ألقاه، فعمى مكانه، فكان يحب النبي حبا شديدا فجعله الله معه في الجنة.الرابع: قال الحسن: إن المؤمنين قالوا للنبي عليه السلام: مالنا منك إلا الدنيا، فإذا كانت الآخرة رفعت في الأولى فحزن النبي صلى الله عليه وسلم وحزنوا، فنزلت هذه الآية.قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات إلا أن سبب نزول الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك، وهو البعث على الطاعة والترغيب فيها، فانك تعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين، وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عند الله تعالى. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: ظاهر قوله: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول} يوجب الاكتفاء بالطاعة الواحدة؛ لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل به في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة.قال القاضي: لابد من حمل هذا على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة.وعندي فيه وجه آخر، وهو أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {وَمَن يُطِعِ الله} أي ومن يطع الله في كونه إلها، وطاعة الله في كونه إلها هو معرفته والاقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته، فصارت هذه الآية تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد، فالأول: هو أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى، وبعدها عن التكدر بمحبة عالم الاجسام أتم كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل.والثاني: انه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل والهداية إلى الصراط المستقيم، ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا الذي وقع به في الختم لابد أن يكون أشرف وأعلى مما قبله، ومعلوم أنه ليس المراد من كون هؤلاء معهم هو أنهم يكونون في عين تلك الدرجات، لأن هذا ممتنع، فلابد وأن يكون معناه أن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا لسبب الحب الشديد، فإذا فارقت هذا العالم ووصلت إلى عالم الآخرة بقيت تلك العلائق الروحانية هناك، ثم تصير تلك الأرواح الصافية كالمرايا المجلوة المتقابلة، فكأن هذه المرايا ينعكس الشعاع من بعضها على بعض، وبسبب هذه الانعكاسات تصير أنوارها في غاية القوة، فكذا القول في تلك الأرواح فإنها لما كانت مجلوة بصقالة المجاهدة عن غبار حب ما سوى الله، وذلك هو المراد من طاعة الله وطاعة الرسول، ثم ارتفعت الحجب الجسدانية أشرقت عليها أنوار جلال الله، ثم انعكست تلك الأنوار من بعضها إلى بعض وصارت الأرواح الناقصة كاملة بسبب تلك العلائق الروحانية، فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه. اهـ.قال الفخر:ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين، كون الكل في درجة واحدة، لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وإنه لا يجوز.بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه، فهذا هو المراد من هذه المعية. اهـ..قال القرطبي: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم، لا أنهم يساوونهم في الدّرجة؛ فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدّنيا والاقتداء.وكلّ مَن فيها قد رزق الرضا بحاله، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول.قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعرافُ: 43]. اهـ..قال الفخر: اعلم أنه تعالى ذكر النبيين، ثم ذكر أوصافا ثلاثة: الصديقين والشهداء والصالحين، واتفقوا على أن النبيين مغايرون للصديقين والشهداء والصالحين، فأما هذه الصفات الثلاثة فقد اختلفوا فيها، قال بعضهم: هذه الصفات كلها لموصوف واحد، وهي صفات متداخلة فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقًا وشهيدًا وصالحا.وقال الآخرون: بل المراد بكل وصف صنف من الناس، وهذا الوجه أقرب لأن المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه، وكما أن النبيين غير من ذكر بعدهم، فكذلك الصديقون يجب أن يكونوا غير من ذكر بعدهم وكذا القول في سائر الصفات، ولنبحث عن هذه الصفات الثلاث:الصفة الأولى: الصديق: وهو اسم لمن عادته الصدق، ومن غلب على عادته فعل إذا وصف بذلك الفعل قيل فيه فعيل، كما يقال: سكير وشريب وخمير، والصدق صفة كريمة فاضلة من صفات المؤمنين، وكفى الصدق فضيلة أن الإيمان ليس إلا التصديق، وكفى الكذب مذمة أن الكفر ليس إلا التكذيب.إذا عرفت هذا فنقول: للمفسرين في الصديق وجوه: الأول: أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق، والدليل عليه قوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون} [الحديد: 19].الثاني: قال قوم: الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.الثالث: أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فصار في ذلك قدوة لسائر الناس، وإذا كان الأمر كذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف أما بيان أنه سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه قد اشتهرت الرواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ما عرضت الإسلام على أحد إلا وله كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم» دل هذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم لما عرض الإسلام على أبي بكر قبله أبو بكر ولم يتوقف، فلو قدرنا أن اسلامه تأخر عن إسلام غيره لزم أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصر حيث أخر عرض الإسلام عليه، وهذا لا يكون قدحا في أبي بكر، بل يكون قدحا في الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفر، ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه صلى الله عليه وسلم ما قصر في عرض الإسلام عليه، ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه صلى الله عليه وسلم ما قصر في عرض الإسلام عليه، والحديث دل على أن أبا بكر لم يتوقف ألبتة، فحصل من مجموع الأمرين أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أسبق الناس إسلاما، أما بيان أنه كان قدوة لسائر الناس في ذلك فلأن بتقدير أن يقال: إن إسلام علي كان سابقا على إسلام أبي بكر، إلا أنه لا يشك عاقل أن عليا ما صار قدوة في ذلك الوقت، لأن عليا كان في ذلك الوقت صبيًا صغيرًا، وكان أيضا في تربية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان شديد القرب منه بالقرابة، وأبو بكر ما كان شديد القرب منه بالقرابة وإيمان من هذا شأنه يكون سببا لرغبة سائر الناس في الإسلام.وذلك لأنهم اتفقوا على أنه رضي الله تعالى عنه لما آمن جاء بعد ذلك بمدة قليلة بعثمان بن عفان رضي الله عنه، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم أجمعين حتى أسلموا، فكان إسلامه سببا لاقتداء هؤلاء الأكابر به، فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه رضوان الله عليه كان أسبق الناس إسلاما، وثبت أن إسلامه صار سببا لاقتداء أفاضل الصحابة في ذلك الإسلام، فثبت أن أحق الأمة بهذه الصفة أبو بكر رضي الله عنه.إذا عرفت هذا فنقول: هذا الذي ذكرناه يقتضي أنه كان أفضل الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيانه من وجهين:الأول: أن إسلامه لما كان أسبق من غيره وجب أن يكون ثوابه أكثر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة».الثاني: أنه بعد أن أسلم جاهد في الله وصار جهاده مفضيا إلى حصول الإسلام لأكابر الصحابة مثل عثمان وطلحة والزبير وسعد ابن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وعلي رضي الله تعالى عنهم، وجاهد علي يوم أحد ويوم الأحزاب في قتل الكفار، ولكن جهاد أبي بكر رضي الله عنه أفضى إلى حصول الإسلام لمثل الذين هم أعيان الصحابة، وجهاد علي أفضى إلى قتل الكفار، ولا شك أن الأول أفضل، وأيضًا فأبو بكر جاهد في أول الإسلام حين كان النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الضعف، وعلي إنما جاهد يوم أحد ويوم الأحزاب، وكان الإسلام قويا في هذه الأيام، ومعلوم أن الجهاد وقت الضعف أفضل من الجهاد وقت القوة، ولهذا المعنى قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا} [الحديد: 10] فبين أن نصرة الإسلام وقت ما كان ضعيفا أعظم ثوابًا من نصرته وقت ما كان قويا، فثبت من مجموع ما ذكرنا أن أولى الناس بهذا الوصف هو الصديق، فلهذا أجمع المسلمون على تسليم هذا اللقب له إلا من لا يلتفت إليه فإنه ينكره، ودل تفسير الصديق بما ذكرناه على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف وهو كون الإنسان صديقا، وكما دل الدليل عليه فقد دل لفظ القرآن عليه، فإنه أينما ذكر الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة، فقال في وصف إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} [مريم: 54] وفي صفة إدريس {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا} [مريم: 56] وقال في هذه الآية: {مّنَ النبيين والصديقين} يعني إنك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة، وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية، ولا متوسط بينهما، وقال في آية أخرى: {والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] فلم يجعل بينهما واسطة، وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة حتى جعلوا الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر على سبيل الإجماع، ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية، فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها. اهـ.
|